البحث العلمي عند العرب (مشكلات تستدعي التفكير)
2- نقل بلا صقل
بقلم الأستاذة: فاطمة الزهرة رابط
كلما دار الحديث عن العلم وفضله نستذكر قول الله عز وجل: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: 11). فهو رفعة وتشريف من الله، وقد قال أيضا سبحانه وتعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ }(الزمر:9)؛ ولكنّ كل تشريف يلازمه تكليف.. فالأمانة جسيمة والحمل ثقيل لمن وعى.
ولأننا في المقال الفارط قد تحدثنا عن مشكلة من مشكلات البحث العلمي عند العرب، فإننا سنستكمل الحديث عن مشكلة أخرى، ألا وهي النقل. وليس المقصود هنا النقل الموضوعي والممنهج، بل النقل الملوث من مصادر أجنبية إلى اللغة العربية، وكذا النقل الحرفي من المراجع العربية بشكل تعجب له العقول.
أما صنف النقل الأول، فلا يتأتّى إلا بالترجمة، وهو نابع من رغبة العلماء والباحثين العرب في الاستفادة من علوم الغير عبر نقلها إلى لغتهم الأم. وقد بدأت حركة الترجمة منذ الحضارات القديمة، خاصة مع التجار في رحلاتهم، فقد تعين عليهم تعلم لغات الغير وإتقانها لتيسير شؤون تجارتهم وصفقاتهم. وإن كان تعلم اللغة عملية مهمة لتيسير شؤون التجارة والمعاملات، فهي لنقل العلوم أهم وأدق، إذ على المترجم إتقان اللغة مع العلم بحضارة شعبها، وكُنه ثقافته ومعرفة سياقات حاضره وواقعه، ليترجم المصطلح بدقة وتصل الفكرة بالشكل الذي أراده لها قائلها أو كاتبها.
ولكن مما بات منتشرا هو استخدام بعض الباحثين لمحركات بحث عامة غير متخصصة في ترجمة النصوص رغم دقة المصطلحات وحساسيتها، دون أن يفكروا ولو للحظة في مغبة نشرهم لمعلومة خاطئة ستتناقلها أجيال من بعدهم!. المشكلة لا تكمن في استخدام مترجم آلي، بل في الاكتفاء بترجمته الركيكة والانكفاء عن تدقيقها لغويا من طرف مختص في اللغة الأصلية للنص المترجَم!
مما نراه أيضا هو النقل بلا صقل، كمثل أن ينقل الباحث فكرة أو فقرة بترجمتها غير الصحيحة والسليمة، أو بأسلوبها الضعيف، دون أن يبرّئ قلمه من هذا المستوى الركيك، و دون أن يحاول البحث عن المصدر الأصلي ويتأكد منه معانيه!
وكذلك الأمر حين نشاهد رأي العين استشهاد الباحث العربي بنصوص غربية تحتوي على أفكار وأمثلة لا تتناسق البتة مع القيم الإسلامية، بل ولا حتى مع البيئة العربية كونها بيئة -على الرغم من تنوع الأديان فيها- وأمة وحضارة قيَمية ومحافظة. في حين أنه بالإمكان أن يستشهد بشواهد تناسب الواقع العربي المحافظ، أو ينوّه خلال اقتباسه إلى أن هاته الأفكار هي حسب زعم صاحبها الغربي، وليست ثقافة يروج لها هو كباحث عربي.
من الغرائب أيضا أن ينقل بعض الباحثين العرب عن الغرب كل أفكارهم بلبّها وبقشرها دون تكييف ومقاربة تناسب البيئة والثقافة العربية، بل ويعمدون إلى إقناع طلبتهم بها وتسليط سيف التقويم على رقابهم في حال رفضوها أو امتعضوا من غرابتها!
بالإضافة إلى كل ما سبق ذكره، فإن عقلية النقل الحرفي أيضا لدى الكثير من الباحثين، أو ما بات يعرف بمعادلة “النسخ واللصق” أصبحت تؤرق المخلصين من علماء العرب وطلبة العلم، فهي جريرة تطال الأخلاق وتعلّق العلوم العربية على مشنقة الرتابة والتكرار والإطناب. وهي جريمة لا يشعر مرتكبوها بشناعتها في حينها، إنما هي إرث أسود ومرّ سيخلّفونه من بعدهم.. كمثل مورّث خلّف من بعده صندوقا لورثته، حتى إذا فتحوه وجدوه خاويا لا يحتوي على ما ينفعهم ويسدّ حاجتهم إلى الغير في كل شيء!
و عقلية النقل والنسخ الحرفي ليست تقتصر على النقل الحرفي من كتب الغربيين فقط، فلعلنا ساعتها نعتبر أن الباحث نقل إلينا الجمل بما حمل من انبهاره بالفكر الغربي وإصابته بعقدة النقص ومتلازمة الاستيراد والاستهلاك المفرط. بل إنها منتشرة حتى بين بني البيئة والثقافة الواحدة، فينقل الباحث ما جادت به قريحة أبناء جلدته نقلا حرفيا دون إعمال عقله واستحضار قلمه، وفي هذه الحالة لا يكون الأذى فقط للعلوم العربية بل حتى لسمعته هو كباحث، فقد وقّع على شهادة وفاته أكاديميا وعلميا وأخلاقيا، وأكد على بطلان حجته، و ضعف مستواه!
معاشر العلماء والباحثين..
اصقلوا الكلمة قبل نقلها، أخرجوها من ضيق فُهومها الغربية إلى رحابة حضارتنا وبديع لغتنا؛ اصقلوا العبارة والنظرية الغربية وهذَبوها فلا تجلبوا لبيوتنا بيْض الحيايا حتى إذا فقست في بطون أطفالنا استغربنا وذُهلنا؛ تحلّوا بالأمانة فلا تنسبوا لكم ما ليس لكم، خاصة مال اليتامى، وهم صغار طلبة العلم الذين لا وليّ ولا حول ولا قِبَلَ لهم بكم، تعففوا عن مالهم (جهدهم العلمي) فلا تأخذوه وتضمّوه لأموالكم ظلما وعدوانا!
وفي الختام.. فإنه مهما كان تخصص العالم أو طالب العلم، فلن يستقيم له الفهم، ولن يدرك أنوار المعارف، ولن ينال الثواب والرفعة مالم يدرك أهمية العلم ويحترمه، ويتحمّله ويحمله كأمانة مقدسة يستلمها ويسلّمها طاهرةً بلا خدوش وتشوهات، ونستذكر هنا قول الإمام الحسن البصري: “لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم. تعلّموا العلم فإن تعلّمه خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، والدليل على الدين والصبر على الضراء والسراء، والقريب عند الغرباء، ومنار سبيل الجنة، يرفع الله به أقواما في الخير فيجعلهم سادة هداة يقتدى بهم، أدلة في الخير تُقتفى آثارهم وتُرمق أفعالهم، وترغب الملائكة في خلّتهم، وبأجنحتها تمسحهم، لأن العلم حياة القلوب ونور الأبصار، به يبلغ الإنسان منازل الأبرار، وبه يطاع الله عز وجل وبه يُعْبد وبه يُوَحّد، وبه يُمَجّد وبه تواصل الأرحام ، يُلهَمُه السعداء ويُحرَمُه الأشقياء..”.